1.1 التعريف بلفظ "القرآن" لغة واصطلاحًا
القرآن الكريم
 |
كتاب ختم الله به الكُتب، وأنزله على نبي ختم به الأنبياء بدين عام خالد، ختم به الأديان، فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون السماء لهداية الأرض، أنهى إليه منزله كل تشريع، وأودعه كل نهضة، وناط به كل سعادة، وهو حُجة الرسول وآياته الكبرى، يقوم في فم الدنيا شاهدًا برسالته، ناطقًا بنبوّته، دليلًا على صدقه وأمانته، وهو ملاذ الدين الأعلى يستند الإسلام إليه في عقائده وعبادته، وحكمه وأحكامه، وآدابه وأخلاقه، وقصصه ومواعظه، وعلومه ومعارفه، وهو عماد لغة العرب الأسمى، تدين له اللغة في بقائها وسلامتها، وتستمد علومها منه على تنوّعها وكثرتها، وتفوق سائر اللغات العالية به في أساليبها ومادتها، وهو أولًا وآخرًا القوة المحولة التي غيَّرت صورة العالم، ونقلت حدوده، وحولت مجرى التاريخ، وأنقذت الإنسانية العاثرة؛ فكأنما خلقت الوجود خلقًا جديدًا، لذلك كله كان القرآن الكريم موضع العناية الكبرى من الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، ومن سلف الأمة وخلفها جميعًا إلى يوم الناس |
1.1 التعريف بلفظ "القرآن" لغة واصطلاحًا
 |
هذا، وقد اتخذت هذه العناية أشكالًا مختلفة، فتارة ترجع إلى لفظه وأدائه، وأخرى إلى أسلوبه وإعجازه، وثالثةً إلى كتابته ورسمه، ورابعًا إلى تفسيره وشَرْحه إلى غير ذلك، ولقد أفرد العلماء كل ناحية من هذه النواحي بالبحث والتأليف، ووضعوا من أجلها العلوم، ودوَّنوا الكتب وتباروا في هذا الميدان الواسع أشواطًا بعيدة؛ حتى زخرت المكتبة الإسلامية بتراث مجيد من آثار سلفنا الصالح وعلمائنا الأعلام |
 |
وكانت هذه الثروة ولا تزال مفخرة نتحدَّى بها أمم الأرض، ونُفحم بها أهل الملل والنحل في كل عصر ومصر، وهكذا أصبح بين أيدينا الآن مصنفات متنوعة، وموسوعات قيمة في ما نسميه علم القراءات، وعلم التجويد، وعلم الرسم العثماني، وعلم التفسير، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم غريب القرآن، وعلم إعجاز القرآن، وعلم إعراب القرآن وما شاكل ذلك من العلوم الدينية والعربية، مما يُعتبر بحقّ أروع مظهر عرفه التاريخ لحراسة كتاب هو سيد الكتب، وبات هذا المظهر معجزةً جديدةً مصدّقةً لقوله سبحانه: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )) [الحجر: 9] |
1.1 التعريف بلفظ "القرآن" لغة واصطلاحًا
تعريف لفظ القرآن لغةً
 |
قال الشيخ الزُّرقاني -رحمه الله تعالى- عند تعريفه بلفظ القرآن: "أما لفظ القرآن فهو في اللغة مصدر مرادف للقراءة، ومنه قوله تعالى: (( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ )) [القيامة: 17، 18] ثم نُقل من هذا المعنى المصدري وجُعل اسمًا للكلام المعجز المنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- من باب إطلاق المصدر على مفعوله، ذلك ما نختاره؛ استنادًا إلى موارد اللغة وقوانين الاشتقاق، وإليه ذهب اللحياني وجماعة أما القول بأنه وصف من القرء بمعنى الجمع، أو أنه مشتق من القرائن، أو أنه مشتق من: قَرَنت الشيء بالشيء، أو أنه مرتجل أي: موضوع من أول الأمر، عَلَمًا على الكلام المعجز المنزل غير مهموز ولا مجرد من "ال" فكل أولئك لا يظهر له وجه وجيه، ولا يخلو توجيه بعضه من كُلفة، ولا بُعد عن قواعد الاشتقاق وموارد اللغة" |
1.1 التعريف بلفظ "القرآن" لغة واصطلاحًا
 |
ثم قال -رحمه الله-: "وعلى الرأي المختار فلفظ قرآن مهموز، وإذا حُذف همزه، فإنما ذلك للتخفيف، وإذا دخلته "أل" بعد التثنية فإنما هي للمح الأصل لا للتعريف، ويقال للقرآن: فرقان أيضًا، وأصله مصدر كذلك، ثم سمي به النظم الكريم تسميةَ المفعول أو الفاعل بالمصدر باعتبار أنه كلام فارقٌ بين الحق والباطل، أو هو مفروق بعضه عن بعض في النزول، أو في السور والآيات، قال تعالى: (( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )) [الفرقان: 1] ثم إن هذين الاسمين هما أشهرُ أسماء النظم الكريم، بل جعلهما بعض المفسرين مرجعَ جميع أسمائه، كما تُرجح صفات الله على كثرتها إلى معنى الجلال والجمال ويلي هذين الاسمين في الشهرة هذه الأسماء الثلاثة: الكتاب، والذكر، والتنزيل وقد تجاوز صاحب (البُرهان) حدودَ التسمية، فبلغ بعدتها خمسةً وخمسين، وأسرف غيرُه في ذلك حتى بلغ بها نيفًا وتسعين كما ذكره صاحب (التبيان) |
1.1 التعريف بلفظ "القرآن" لغة واصطلاحًا
 |
واعتمد هذا وذاك على إطلاقات واردة في كثير من الآيات والسور، وفاتَهما أن يفرقَا بين ما جاء من تلك الألفاظ على أنه اسم، وما ورد على أنه وصف، ويتضح ذلك على سبيل التمثيل في عدهما من الأسماء لفظ قرآن ولفظ كريم؛ أخذًا من قوله تعالى: (( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ )) [الواقعة: 77] كما عُدَّ من الأسماء لفظ ذكر ولفظ مبارك؛ اعتمادًا على قوله تعالى: (( وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ )) [الأنبياء: 50] على حين أن لفظ قرآن وذِكر في الآيتين مقبول كونهما اسمين إلا لفظ كريم ومبارك، فلا شك أنهما وصفان -كما ترى- والخطب في ذلك سهل يسير، بيد أنه مُسهِب طويل حتى لقد أفرده بعضهم بالتأليف وفيما ذكرناه كفاية" |
1.1 التعريف بلفظ "القرآن" لغة واصطلاحًا
تعريف القرآن الكريم في الاصطلاح
 |
علينا أن نعلم أن القرآن كلام الله، وأن كلام الله غيرُ كلام البشر ما في ذلك ريب، ومعلوم أيضًا أن الإنسان له كلام قد يُراد به المعنى المصدري أي: التكلم، وقد يراد به المعنى الحاصل بالمصدر أي: المُتكلَّم به، وكل من هذين المعنيين لفظي ونفسي؛ فالكلام البشري اللفظي بالمعنى المصدري هو تحريك الإنسان للسانه، وما يساعده في إخراج الحروف من المخارج والكلام اللفظي بالمعنى الحاصل بالمصدر هو تلك الكلمات المنطوقة التي هي كيفية في الصوت الحسي، وكِلا هذين ظاهر لا يحتاج إلى توضيح |
 |
أما الكلام النفسي بالمعنى المصدري فهو تحضير الإنسان في نفسه بقوته المتكلمة الباطنة للكلمات التي لَمْ تبرز إلى الجوارح، فيتكلم بكلمات متخيَّلَة يُرتّبها في الذهن، بحيث إذا تلفَّظ بها بصوت حسي كانت طبق كلماته اللفظية، والكلام النفسي بالمعنى الحاصل بالمصدر هو تلك الكلمات النفسية والألفاظ الذهنية المترتبة ترتبًا ذهنيًّا، منطبقًا عليه الترتب الخارجي، ومن الكلام البشري النفسي بنوعيه قوله تعالى: (( فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ )) [يوسف: 77] |
1.1 التعريف بلفظ "القرآن" لغة واصطلاحًا
 |
ومنه الحديث الشريف الذي رواه الطبراني عن أم سلمةَ -رضي الله عنها- أنها سمعتْ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وقد سأله رجل فقال: (( إني لأحدّث نفسي بالشيء لو تكلمتُ به لأحبط أجري، فقال -صلى الله عليه وسلم-: لا يلقى ذلك الكلامَ إلا مؤمن )) |
 |
فأنت ترى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمَّى ذلك الشيء الذي تحدثتْ به النفس كلامًا، مع أنه كلمات ذهنية لم ينطق بها الرجل؛ مخافةَ أن يُحبط بها أجره، وهذا الإطلاق من الرسول -صلى الله عليه وسلم- يُحمل على الحقيقة؛ لأنه الأصل ولا صارف عنها |
 |
كذلكم القرآن كلام الله: (( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى )) [النحل: 60] قد يُطلق ويُراد به الكلام النفسي، وقد يطلق ويراد به الكلام اللفظي، والذين يطلقونه إطلاقَ الكلام النفسي هم المتكلمون فحسب؛ لأنهم المتحدثون عن صفات الله تعالى النفسية من ناحية، والمقرون بحقيقة أن القرآن كلام الله غير مخلوق من ناحية أخرى، أما الذين يطلقونه إطلاق الكلام اللفظي فالأصوليون والفقهاء وعلماءُ العربية، وإن شاركهم فيه المتكلمون أيضًا بإطلاق ثالث عندهم |
1.1 التعريف بلفظ "القرآن" لغة واصطلاحًا
 |
وإنما عُني الأصوليون والفقهاء بإطلاق القرآن الكريم على الكلام اللفظي؛ لأن غرضَهم الاستدلال على الأحكام وهو لا يكون إلا بالألفاظ، وكذلك علماء العربية يعنيهم أمرَ الإعجاز، فلا جرَمَ كانت وجهتهم الألفاظ |
 |
وعلى هذا فإن تعريف القرآن الكريم في الاصطلاح عند الأصوليين والفقهاء وبعض المتكلمين: هو اللفظ المُنزَّل على النبي -صلى الله عليه وسلم- من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس، فهو مظاهر أصول تلك الكلمات الحكمية الأزلية التي سبق ذكرها |
 |
قال الشيخ الزرقاني -رحمه الله تعالى-: غير أن هؤلاء الذين أطلقوه على لفظ القرآن، اختلفوا في تعريفه؛ فمنهم مَن أطال في التعريف وأطنبَ بذكر جميع خصائص القرآن الممتازة، ومنهم مَن اختصر فيه وأوجزَ، ومنهم مَن اقتصد وتوسط، فالذين أطنبوا عرَّفوه: بأنه الكلام المعجز المنزَّل على النبي -صلى الله عليه وسلم- المكتوبُ في المصاحف، المنقولُ بالتواتر، المتعبَّدُ بتلاوته، وأنت ترى أن هذا التعريف جمعَ بين الإعجاز والتنزيل على النبي -صلى الله عليه وسلم- والكتابة في المصاحف، والنقل بالتواتر، والتعبد بالتلاوة، وهي الخصائص العظمَى التي امتاز بها القرآن الكريم وإن كان قد امتاز بكثير سواها |
1.1 التعريف بلفظ "القرآن" لغة واصطلاحًا
 |
ولا يخفَى عليك أن هذا التعريف كان يكفي فيه ذكر بعض تلك الأوصاف ويكون جامعًا مانعًا، غير أن مقام التعريف مقامُ إيضاح وبيانٍ، فيناسبه الإطناب؛ لغرض زيادة ذلك البيان، لذلك استباحوا لأنفسهم أن يزيدوا فيه ويسهبوا |
 |
والذين اختصروا وأوجزوا في التعريف منهم من اقتصر على ذكر وصف واحد هو الإعجاز، ووجهة نظرهم في هذا الاقتصار أن الإعجاز هو الوصف الذاتي للقرآن، وأنه الآيةُ الكبرى على صِدق النبي -صلى الله عليه وسلم- والشاهد العدل على أن القرآن كلام الله، ومنهم من اقتصر على وصفين هما الإنزال والإعجاز، وحجتهم أن ما عَدَا هذين الوصفين ليس من الصفات اللازمة للقرآن، بدليل أن القرآن قد تحقَّق فملأ بهما دون سواهما على عهد النبوة |
 |
ومنهم مَن اقتصر على وصف النقل في المصاحف والتواتر؛ لأنهما يكفيان في تحصيل الغرض وهو بيان القرآن وتمييزُه عن جميع ما عداه_ |
1.1 التعريف بلفظ "القرآن" لغة واصطلاحًا
 |
والذين توسطوا منهم مَن عرَضَ لإنزال الألفاظ وللكتابة في المصاحف، وللنقل بالتواتر فحسب، موجهًا رأيَه بأن المقصود هو تعريفُ القرآن لِمَن لَمْ يدركه زمن النبوة، وأن ما ذكره من الأوصاف هو مِن اللوازم البينة لأولئك الذين لم يُدركوها بخلاف الإعجازِ؛ فإنه غير بيِّن بالنسبة لهم، وليس وصفًا لازمًا لِمَا كان أولى من سورة من القرآن، ومن أولئك الذين توسطوا من عرض للإنزال والنقل بالتواتر والتعبد بالتلاوة فقط، مستندًا إلى أن ذلك هو الذي يناسب غرض الأصوليين_ |
 |
وعلى هذا فإننا حين نريد أن نشرح التعريف السابق نقول: إن اللفظ جنس في التعريف يشمل المفردة والمركب، ولا شك على أن الاستدلال على الأحكام كما يكون بالمركبات يكون بالمفردات، كالعام والخاص، والمطلق والمقيد، وخرج بالمنزَّل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لم ينزل أصلًا مثل كلامنا، ومثل الحديث النبوي، وما نزل على غير النبي -صلى الله عليه وسلم- كالتوراة والإنجيل |
1.1 التعريف بلفظ "القرآن" لغة واصطلاحًا
 |
وخرج بالمنقول تواترًا جميع ما سوى القرآن من منسوخ التلاوة والقراءة غير المتواترة، سواء أكانت مشهورةً نحو قراءة ابنِ مسعود "متتابعات" عقب قوله تعالى: (( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصَيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ )) [المجادلة: 4] أم كانت أحادية كقراءة ابن مسعود أيضًا لفظ "متتابعات" عقب قوله تعالى: (( وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )) [البقرة: 185] فإن شيئًا من ذلك لا يُسمى قرآنًا ولا يأخذ حكمه، وخرجت الأحاديث القدسية إذا تواترت بقولهم: المتعبد بتلاوته |