![]() |
التوجيه: أصله الوجه، فهو يحمل عدَّة معانٍ في أصله اللغوي، والمعنى الاصطلاحي للتوجيه: إخراج اللفظ من معنى إلى آخر لمناسبة بينهما؛ فإن مصطلح التوجيه قد حمل معه المعاني اللغوية لوجوه مناسبة بينها، فالوجه هو السبيل الذي تصل به إلى المقصود، فكل عنصر لغوي لا بد أن يكون له أصل يُرجع إليه، وكذلك القصد من التوجيه هو ردُّ الشيء إلى أصله للوصول به إلى ما يقصده القارئ، فكل ما له أصل له وجه في العربية، أو هو تقليب اللفظ على وجوهه حتى يستقيم مع بقيَّة الألفاظ في النظم تبعًا لسنن العربية. |
![]() |
مصطلح التوجيه فقد اقترن بالقراءات القرآنية بعد أن كان مصطلحًا عامًّا. وهذا مظهر من مظاهر الاتساع في استعمال المصطلح، فهو يشمل أيضا توجيه الألفاظ والعناصر اللغوية كما عند العروضيين والبلاغيين، وقد جاء مصطلح التوجيه متأخرًا عن الوجه، فالوجه استعمله العلماء الأوائل بمعنى التوجيه في القراءات، أرادوا به إيجاد وجه في العربية لما اختاره القارئ من ألفاظ اللغة، أو حالة إعرابية في عنصر من عناصر التركيب. |
![]() |
ولما كانت أوجه التغاير القرآني لغوية في الأساس كان طبيعيًّا أن يعتدَّ الموجهون، ولا سيما اللغويون منهم بركن موافقة القراءة للعربية لا بوصفه مناط قوة لها فحسب، بل لأنه صار عندهم مجالًا خصبًا للتعليل والتحليل الذي يتضمَّن في الغالب تلمّس الوجوه اللغوية التي تجري عليها، وهي وجوه تنوَّعت بحسب تنوع أوجه التغاير القرآني ما بين وجوه نحوية تتعلَّق بمواقع الكلمات وتغاير وظيفتها داخل تركيبها، وصرفية تتعلق بوزن الكلمات واشتقاقها، وصوتية تتعلق بطرق الأداء، ودلالية تتصل بمدلول اللفظ في سياقه، واستعان الموجهون في تحليل ذلك كله بنظائره القرآنية وبما عنَّ لهم من لهجات العرب وأقوالها شعرًا أو نثرًا، كما توسلوا إلى إبراز معنى القراءة ودلالتها بمعارف أخرى، كأسباب النزول ومناسباته، ومعرفة التفسير والغريب، ومراعاة سياق الآي، والمقام الذي وردت فيه القراءة. |
![]() |
لذلك لم يكن مستغربًا: أن نجد الاتجاه اللغوي هو الغالب في توجيه القراءات والاحتجاج لها، وإن كان ثمَّة اتجاهات أخرى فهي في الواقع عالة عليه، أو ثمرة من ثمار النظر فيه، وقد تهيَّأ لنا من هذه الاتجاهات على سبيل الإشارة ها هنا ما يمكن تسميته بالتوجيه الفقهي، وهو اتجاه يستعين بالقراءات على فقه الأحكام واستنباطها، كما يتوسل بالتغاير القرآني إلى القول بالتخيير بين حكمين أو الجمع بينهما. |
![]() |
أما التوجيه البلاغي: فهو اتجاه يُعنى بالإشارة إلى الوجوه البلاغية المترتبة على تغاير القراءات واختلافها، وتلمّس دورها في إثراء بلاغة القرآن الكريم بوصفها وجهًا من وجوه إعجازه، بَيْد أن ها هنا أمرًا ينبغي التنبيه إليه؛ إذ طالما ندَّ مسلك الموجهين في هذا المجال القول بأبلغية قراءة على أخرى، أو الترجيح بينها بما يُوهم في بادئ النظر بتدافع القراءات في المعنى، أو إسقاط الأخذ ببعضها، ولم يكد يسلم من ذلك إلا قليل منهم، وذلك المسلك وإن كان يجوز على تسمّع فيما بين القراءات الشواذّ؛ لكونها كما يقولون: أقوى في الصناعة من جهة أقيستهم في العربية، وأقل تحرجًا من جهة ذَوْقهم في النظر إلى معانيها، فهو غير مرضيّ فيما بين القراءات المتواترة. |
![]() |
والسر في هذا أن الاختلاف بين القراءات المتواترة لا يبلغ بحال مبلغ التضاد بين معانيها، وإنما مبلغه كما يقول ابن قتيبة: هو التغاير والتنوّع، كذلك الذي وقع مثلًا بقراءتي "علمتَ" بفتح التاء وضمها في قوله تعالى: (( قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ )) فقد قرأها الكسائي بالرفع: "قال لقد علمتُ ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر" لأن فرعونَ قال لموسى -عليه السلام-: إن آياتك التي أتيت بها سحر، فقال موسى -عليه السلام- مرةً: لقد علمتُ ما هي سحر ولكنها بصائر، وقال مرةً: لقد علمتَ أنتَ أيضًا ما هي سحر، وما هي إلا بصائر. فأنزل الله المعنيين جميعًا. |
![]() |
وهناك معانٍ أخرى لهذا المصطلح، منها معنى الاحتجاج، جاء في (اللسان): الحجة البرهان، وقيل الحجة ما دُوفع به الخصم. وقال الأزهري: الحجة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة، وفي (التعريفات) للشريف الجرجاني -رحمه الله تعالى-: الحجة ما دُلَّ به على صحة الدعوى، وعلى هذا فالاحتجاج هو إقامة الحجة. |
![]() |
وأما ما يُستخلص من كتب الاحتجاج من معناه، فهو أنه بيانُ وجه كل قارئ فيما اختاره من قراءة، وأكثر هذه الوجوه لغوية، ومنها ما ليس كذلك أيضًا. وسُمّي هذا الضرب من التأليف احتجاجًا؛ لأن أكثر مَن ألَّف فيه كان يفتتح ببيان وجوه القُرَّاء بقوله: وحجة مَن قرأ بكذا... إلى آخره. |
![]() |
وهناك تسميات أخرى عرفتها كتب التوجيه وكتب الاحتجاج، من هذه التسميات: وجوه القراءات، وعلل القراءات، ومعاني القراءات، وإعراب القراءات. |
![]() |
دوافع التأليف في الاحتجاج: يكاد الباحثون يتفقون على أن دوافع التأليف في الاحتجاج أمران: |
![]() |
توضيح الأركان الثلاثة للقراءة الصحيحة، الدفاع عن القراءات؛ وفي كليهما نظر. |
![]() |
أما الأول: فإن كتب الاحتجاج لم تُعنَ بنقد أسانيد القراءات التي تعرُض لها، وهي حينما تحتج برسم المصحف لا تفعل ذلك لتوضيح موافقة القراءات لمرسوم الخط، بل لترجّح قراءة على أخرى. |
![]() |
وأما الآخر: فهو لا يُفسِّر سوى الاحتجاج لمشكل القراءات مما تكلَّم فيه بعض اللغويين وغيرهم، وهو نذرٌ إذا قيس بما وراءه مما لم يُختلف على صحته لفظًا ومعنًى، على أن ممن ألف في الاحتجاج مَن ضعف، وردّ، وخطَّأ، ولحّن، ووهَّم، وردَّ بعضَ القراءات المتواترة، فكيف يُقال عن هؤلاء: إن دافعهم للتأليف في الاحتجاج للقراءات هو الدفاع عنها؟ |
![]() |
وكل ما في الأمر أن كتب القراءات لَمَّا كانت كتبَ رواية يُراعى فيها الاختصار؛ تمكينًا للطلبة من حفظها؛ كان أكثرها يخلو من المعاني والعلل، فجاءت كتب الاحتجاج وهي كتب دراية تَشرح ما اختصر فيها. |
![]() |
ومما يشهد أن الدافع للتأليف في الاحتجاج إنما كان شرح كتاب القراءات؛ لِمَا انطوت عليه من إيجاز أن أكثر كتب الاحتجاج بُني على كتاب في القراءات، جُعل متنًا له؛ فـ(معاني القراءات) للأزهري، و(إعراب السبع)، و(الحُجة) لابن خالويه، و(الحُجة) لأبي علي الفارسي، وُضعت على كتاب (السبعة في القراءات) لابن مجاهد، و(الكشف) لمكي وضِعَ على (التبصرة)، و(شرح الهداية) للمهدوي وضع على (الهداية)، و(الموضح) لابن أبي مريم وضع على (تبصرة البيان في القراءات الثمان) لأبي الحسن علي بن جعفر السعيدي الرازي، وهذا مما يُفسر تكاثر كتب الاحتجاج بعد تأليف ابن مجاهد كتابه. |
![]() |
أنماط كتب الاحتجاج: قسم العلماء كتب الاحتجاج قسمة أولى باعتبار صحة القراءات التي تحتجّ لها على ثلاثة أضرب: |
![]() |
ضَرْب احتج للقراءات المتواترة والشاذة معًا، وضرب احتج للقراءات المتواترة فقط، وضرب احتج للقراءات الشاذة فقط. |
![]() |
والضرب الثاني هو الغالب على كتب الاحتجاج؛ لأن حاجة الناس إليه أكثر، واهتمامهم به أوفر. |
![]() |
وتنقسم قسمة ثانية باعتبار عدد القراءات التي تُحتج لها على ضربين: مطلق ومقيد، والمقيد على أضرب: ضرب احتج لقراءة واحدة، وضرب احتج لقراءتين، وضرب احتج للقراءات السبع، وضرب احتج للقراءات الثماني -والذين احتجوا للقراءات الثماني أضافوا إلى القراء السبعة يعقوب الحضرمي، وضرب احتج للقراءات العشر؛ والضرب المقيد بالسبع هو الغالب على كتب الاحتجاج؛ لأن أكثر هذه الكتب وُضع شرحًا لسبعة ابن مجاهد. |
![]() |
وتنقسم قسمة ثالثة باعتبار منهجها في الاحتجاج على ضربين: كتب القُرّاء وكتب النحاة. |
![]() |
أنواع الاحتجاج: قد ذكر العلماء سبعة أنواع لأنواع الاحتجاج: |
![]() |
النوع الأول: القراءات الشاذة، وأكثر ما احُتجَّ به من القراءات الشاذة، قراءتَا أُبي بن كعب المتوفى سنة إحدى وعشرين هجرية، وعبد الله بن مسعود المتوفى سنة اثنين وثلاثين من الهجرة -رضي الله عنهما-. |
![]() |
ثانيًا: رسم المصحف. نحو قول الله تعالى: (( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ )) قرأ يعقوب "هو" بالهاء في الوقف، وكذلك: (( فَنِعِمَّا هِيَ )) ، و (( كَأَنَّهُ هُوَ )) ، قرأ يعقوب هذه الكلمات بإثبات الهاء في الوقف بخلافٍ عنه |
![]() |
ثالثًا: القرآن الكريم: قال ابن خالويه: وقوله تعالى: (( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى )) قرأ أبو عمرو ونافع وحفص عن عاصم بالتاء بتأنيث البينة، وقرأ الباقون بالياء؛ لأن تأنيث البينة غير حقيقي فيقرءونها هكذا: "أولم يأتهم" ثم قال: ولأنك قد حجزتَ بين البينة والفعل بحاجز، والاختيار التاء؛ لأن بعض القرآن يشهد لبعض، وكان جماعة من الصحابة والتابعين يحتجُّون لبعض القرآن على بعض، قال الله تعالى: (( جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ )) [البينة: 4] فهذا شاهد: (( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ )) . |
![]() |
النوع الرابع: اتفاق جماعة القُرَّاء، والجماعة إما أن تكون مطلقةً أو مقيدةً، فمن الأول قول مكي: وكل ما ذكرنا من الاختلاف فيما مضى وما نذكر؛ فالاختيار فيه ما عليه الجماعة إلا ما نُبيّنه. وقوله أيضًا: وقد تكرر وما عليه الجماعة أحبُّ إليّ. ومن الآخر قول مكي في اختياره الفصل بين كل سورتين بالتسمية؛ اتباعًا لخطّ المصحف، ولقول عائشة -رضي الله عنها-: "اقرءوا ما في المصحف". ولإجماع أهل الحرمين وعاصم على ذلك. فإجماعهم على القراءة حُجَّة أعتمد عليها في أكثر هذا الكتاب. |
![]() |
خامسًا: الاحتجاج بالتفسير، وهذا أيضًا يوضّح لنا العَلاقةَ بين التفسير وبين التوجيه نحو قوله تعالى: (( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ )) قرأ ابن كثير: "آدمَ من ربه كلمات" بنصب: "آدمَ" ورفع: "كلمات" وقرأ الباقون: (( آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ )) برفع: "آدم" ونصب: "كلمات" فيقرأها ابن كثير هكذا: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه". قال ابن زنجلة: وحجتهم ما رُوي في التفسير في تأويل قوله تعالى: (( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ )) أي: قبلها إذا كان آدم القابل بالكلمات مقبولة. |
![]() |
النوع السادس: الاحتجاج بالآثار: وهذه الآثار على ضربين: |
![]() |
الأول: آثار تَنْعَت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقراءة بعض أصحابه واختياره -رضوان الله عليهم-. والآخر: آثار يرد فيها ما يُتخذ حجة لترجيح لفظ أو معنى. فمن الأول قوله تعالى: (( فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )) قال ابن زنجلة: قرأ يعقوب في رواية رويس: "فبذلك فلتفرحوا هو خير مما تجمعون" بالتاء فيهما، معنى هذا أن يعقوب لم يقرأ هذه القراءة بكامله، فهنا هذه قراءة رويس وحده، فتنسب إلى رويس عن يعقوب. قال ابن زنجلة: وحجته أنها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أبي بن كعب قال: (( قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أمرتُ أن أقرأ عليك. قال: قلت: وقد سماني ربك؟ قال: نعم. فقرأ عليَّ - يعني: النبي صلى الله عليه وسلم-: "قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا تَجْمَعُونَ" )) أي: بالتاء فيهما. ومن النوع الآخر: وهو الآثار التي يرد فيها ما يُتّخذ حُجّةً لترجيح لفظ أو معنى، قولُه تعالى: (( وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ )) قرأ حمزة والكسائي وخلف: "وتصريف الريح" بالإفراد، وقرأ الباقون: (( الرِّيَاحِ )) بالجمع. قال مكي: ووجه القراءة بالجمع في تصريف الرياح هو إتيانها من كل جانب، وذلك معنى يدل على اختلاف هبوبها، فهي رياح لا ريح. وأيضًا فإن هذه المواضع أكثرها لغير العذاب. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين رأى ريحًا هبت: (( اللهم اجعلها رِيَاحًا، ولا تجعلها رِيحًا )) |
![]() |
فعُلم أن الريح بالتوحيد أكثر ما تقع في العذاب والعقوبات، وليست هذه المواضع في ذلك، واعلم أن الرياح بالجمع تأتي في الرحمة؛ فواجب من الحديث أن يُقرأ بالجمع، إذ ليست للعقوبات. ووجه القراءة بالتوحيد أن الواحد يدل على الجمع؛ لأنه اسم للجنس، فهو أخفّ في الاستعمال مع ثبات معنى الجمع فيه، والاختيار الجمع؛ لأن عليه الأكثر من القراء، ولأنه أبين في المعنى لأنه موافق للحديث. |
![]() |
النوع السابع: احتجاج العلماء بأسباب النزول نحو قوله تعالى: (( وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ )) قرأ نافع ويعقوب: "ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم" جزمًا على النفي، وقرأ الباقون: (( وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ )) رفعًا على النفي. قال ابن خالويه: فالحجة لمن رفع أنه أخبر بذلك، وجعل لا نافيةً بمعنى ليس، ودليلُه قراءةُ عبد الله وأُبي: "ولن تسأل". والحجة لمن جزم أنه جعله نهيًا، ودليله ما رُوي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يومًا: (( ليت شعري ما فعل أبواي )) فأنزل الله تعالى: (( وَلَا تَسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ )) فإنا لا نؤاخذك بهم والزم دينك. |