2.1 تعريف التوجيه ومسمياته
تعريف التوجيه لغةً واصطلاحًا
 |
التوجيه: أصله الوجه، فهو يحمل عدَّة معانٍ في أصله اللغوي، جاء في كتاب (العين): الوجه مستقبل كل شيء، والجِهة: النحو، تقول: أخذت جهة كذا أي: نحوه. وقال الأزهري: ويقال: خرج القوم فوجهوا الناسَ الطريق توجيهًا، إذا وطَّئُوه وسلكوه حتى استبانَ أثرُ الطريق لمن يسلكه، والعرب تقول: وجه الحجر جهة ماله، وجهة ما له، يُضرب مثلًا للأمر إذا لم يستقم من جهة أن يتوجَّه له تدبير من جهة أخرى، وأصل هذا في الحجر يوضع في البناء، فلا يستقيم؛ فيُقلب على وجه آخر فيستقيم. وقال الزمخشري: وليس لكلامك هذا وجه صحة، وفي (اللسان) الوجه معروف، ووجوه البلد أشرافه، ووجه الكلام السبيل الذي تقصده به. أما الوجه عند الراغب الأصفهاني: فهو استعارة للمذهب والطريق، ووجه القوم: عينهم ورأسهم، ووجهت الشيء: أرسلته في جهة واحدةٍ. |
2.1 تعريف التوجيه ومسمياته
 |
تلك كانت المدلولات اللغوية التي انتقلت إلى المعنى الاصطلاحي للتوجيه، وإذا كان المصطلح هو إخراج اللفظ من معنى إلى آخر لمناسبة بينهما؛ فإن مصطلح التوجيه قد حمل معه المعاني اللغوية لوجوه مناسبة بينها، فالوجه -كما أسلفنا- هو السبيل الذي تصل به إلى المقصود، فكل عنصر لغوي لا بد أن يكون له أصل يُرجع إليه، وكذلك القصد من التوجيه هو ردُّ الشيء إلى أصله للوصول به إلى ما يقصده القارئ، فكل ما له أصل له وجه في العربية، أو هو تقليب اللفظ على وجوهه حتى يستقيم مع بقيَّة الألفاظ في النظم تبعًا لسنن العربية، فالموجه كالحجَّار الذي يقلب الحجر على وجوهه حتى يستقيم وضعه في المكان المطلوب، وهكذا الموجّه يقوم بقلب الحرف على وجوهه إلى أن ينزل في موضعه المخصص، فتتعلق الكلمات بعضها ببعض. |
2.1 تعريف التوجيه ومسمياته
 |
والتوجيه من المصطلحات التي استُعملت في علوم عديدة ففي البلاغة مرادف الإبهام، وقد يختلط بالتروية، وفي العروض يُطلق على حركة ما قبل الروي المقيد، وهو عند الشريف الجرجاني إيراد الكلام محتملًا لوجهين مختلفين، أو هو إيراد الكلام على وجهٍ يندفع به كلام الخصم. |
 |
وترد كلمة الوجه بمعانٍ متفاوتة حسب استعمالاتها عند اللغويين، أو البلاغيين، أو المفسريين، أو علماء توجيه القراءات؛ فهي بمعنى الطريق، أو السبيل، أو المذهب، أو بمعنى الأنواع والأقسام للشيء الواحد، أو المعاني المتعددة للفظ الواحد، كما هو في المعجمات. |
2.1 تعريف التوجيه ومسمياته
 |
أما مصطلح التوجيه فقد اقترن بالقراءات القرآنية بعد أن كان مصطلحًا عامًّا. وهذا مظهر من مظاهر الاتساع في استعمال المصطلح، فهو يشمل أيضا توجيه الألفاظ والعناصر اللغوية كما عند العروضيين والبلاغيين، وقد جاء مصطلح التوجيه متأخرًا عن الوجه، فالوجه استعمله العلماء الأوائل بمعنى التوجيه في القراءات، أرادوا به إيجاد وجه في العربية لما اختاره القارئ من ألفاظ اللغة، أو حالة إعرابية في عنصر من عناصر التركيب. |
 |
والتوجيه تحديد وجه ما للحكم، وهو إما توجيه استدلال أو توجيه تأويل؛ فالتوجيه الاستدلالي يكون على وجه السَّماع أي: النقل، أو على وجه القياس بحمل لفظ على لفظ، أو حمل لفظ على معنى فيُسمى الوجه حملًا، أو أن يكون بتعليل القياس بعلة، أو طرد، أو شبه، أو قاعدة. أما التأويلي فيكون بالرَّدِّ إلى أصله عندما يكون العنصر اللغوي ذا أصل قريب ظاهر لا يتطرَّق إليه الوهم، أو أن يكون بتخريج العنصر اللغوي لرّدّه إلى الصواب إذا كان أصله موهمًا يتطلَّب التحديد، أو ممتنعًا يتطلب التسويغ. |
2.1 تعريف التوجيه ومسمياته
 |
ويرى السيوطي -رحمه الله تعالى- أن التفسير بيان لوجه واحد، أما التأويل فتوجيه لفظ متوجه إلى معانٍ مختلفة إلى واحد منها بما ظهر من الأدلة، فالتوجيه يشمل كلَّ لفظ أو تركيب يُراد إرجاعه إلى أصله اللغوي، وتوجيه القراءات يرمي إلى الكشف عن الوجه اللغوي الذي اختاره القارئ لنفسه، فالقراءات لها من لغاتٍ العرب أصلٌ، ولا يخرج عن سنن العربية، وكانت التوجيهات في أول أمرها بسيطة تعتمد على حمل قراءة على أخرى، ثم أخذت تتطور، وأصبحتْ فيما بعدُ توجيهًا مبنيًّا على التحليل والتعليل والاستشهاد بالشواهد. |
2.1 تعريف التوجيه ومسمياته
 |
ولما كانت أوجه التغاير القرآني لغوية في الأساس كان طبيعيًّا أن يعتدَّ الموجهون، ولا سيما اللغويون منهم بركن موافقة القراءة للعربية لا بوصفه مناط قوة لها فحسب، بل لأنه صار عندهم مجالًا خصبًا للتعليل والتحليل الذي يتضمَّن في الغالب تلمّس الوجوه اللغوية التي تجري عليها، وهي وجوه تنوَّعت بحسب تنوع أوجه التغاير القرآني ما بين وجوه نحوية تتعلَّق بمواقع الكلمات وتغاير وظيفتها داخل تركيبها، وصرفية تتعلق بوزن الكلمات واشتقاقها، وصوتية تتعلق بطرق الأداء، ودلالية تتصل بمدلول اللفظ في سياقه، واستعان الموجهون في تحليل ذلك كله بنظائره القرآنية وبما عنَّ لهم من لهجات العرب وأقوالها شعرًا أو نثرًا، كما توسلوا إلى إبراز معنى القراءة ودلالتها بمعارف أخرى، كأسباب النزول ومناسباته، ومعرفة التفسير والغريب، ومراعاة سياق الآي، والمقام الذي وردت فيه القراءة. |
2.1 تعريف التوجيه ومسمياته
 |
لذلك لم يكن مستغربًا -والحالة هذه- أن نجد الاتجاه اللغوي هو الغالب في توجيه القراءات والاحتجاج لها، وإن كان ثمَّة اتجاهات أخرى فهي في الواقع عالة عليه، أو ثمرة من ثمار النظر فيه، وقد تهيَّأ لنا من هذه الاتجاهات على سبيل الإشارة ها هنا ما يمكن تسميته بالتوجيه الفقهي، وهو اتجاه يستعين بالقراءات على فقه الأحكام واستنباطها، كما يتوسل بالتغاير القرآني إلى القول بالتخيير بين حكمين أو الجمع بينهما. |
 |
أما التوجيه البلاغي: فهو اتجاه يُعنى بالإشارة إلى الوجوه البلاغية المترتبة على تغاير القراءات واختلافها، وتلمّس دورها في إثراء بلاغة القرآن الكريم بوصفها وجهًا من وجوه إعجازه، بَيْد أن ها هنا أمرًا ينبغي التنبيه إليه؛ إذ طالما ندَّ مسلك الموجهين في هذا المجال القول بأبلغية قراءة على أخرى، أو الترجيح بينها بما يُوهم في بادئ النظر بتدافع القراءات في المعنى، أو إسقاط الأخذ ببعضها، ولم يكد يسلم من ذلك إلا قليل منهم، وذلك المسلك وإن كان يجوز على تسمّع فيما بين القراءات الشواذّ؛ لكونها كما يقولون: أقوى في الصناعة من جهة أقيستهم في العربية، وأقل تحرجًا من جهة ذَوْقهم في النظر إلى معانيها، فهو غير مرضيّ فيما بين القراءات المتواترة، ولهذا أنحى باللوم على مسلكهم هذا كوكبةٌ من العلماء. |
2.1 تعريف التوجيه ومسمياته
 |
فقال النحاس -رحمه الله تعالى-: والسلامة من هذا عند أهل الدين إذا صحَّت القراءتان عن الجماعة أن لا يقال: إحداهما أجود من الأخرى؛ لأنهما جميعًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيأثم من قال ذلك، وكان رؤساء الصحابة -رحمهم الله تعالى- يُنكرون مثل هذا. |
 |
والسر في هذا أن الاختلاف بين القراءات المتواترة لا يبلغ بحال مبلغ التضاد بين معانيها، وإنما مبلغه كما يقول ابن قتيبة: هو التغاير والتنوّع، كذلك الذي وقع مثلًا بقراءتي "علمتَ" بفتح التاء وضمها في قوله تعالى: (( قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ )) فقد قرأها الكسائي بالرفع: "قال لقد علمتُ ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر" لأن فرعونَ قال لموسى -عليه السلام-: إن آياتك التي أتيت بها سحر، فقال موسى -عليه السلام- مرةً: لقد علمتُ ما هي سحر ولكنها بصائر، وقال مرةً: لقد علمتَ أنتَ أيضًا ما هي سحر، وما هي إلا بصائر. فأنزل الله المعنيين جميعًا. |
2.1 تعريف التوجيه ومسمياته
هذا هو معنى التوجيه لغةً واصطلاحًا.
 |
وهناك معانٍ أخرى لهذا المصطلح، منها معنى الاحتجاج، جاء في (اللسان): الحجة البرهان، وقيل الحجة ما دُوفع به الخصم. وقال الأزهري: الحجة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة، وفي (التعريفات) للشريف الجرجاني -رحمه الله تعالى-: الحجة ما دُلَّ به على صحة الدعوى، وعلى هذا فالاحتجاج هو إقامة الحجة. |
 |
وأما ما يُستخلص من كتب الاحتجاج من معناه، فهو أنه بيانُ وجه كل قارئ فيما اختاره من قراءة، وأكثر هذه الوجوه لغوية، ومنها ما ليس كذلك أيضًا. وسُمّي هذا الضرب من التأليف احتجاجًا؛ لأن أكثر مَن ألَّف فيه كان يفتتح ببيان وجوه القُرَّاء بقوله: وحجة مَن قرأ بكذا. |
 |
وهناك تسميات أخرى عرفتها كتب التوجيه وكتب الاحتجاج، من هذه التسميات: وجوه القراءات، وعلل القراءات، ومعاني القراءات، وإعراب القراءات. |