ملخص الدرس


اختلاف القراءات:في شرح حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( إن القرآن أُنزل على سبعة أحرُف، كلها شافٍ كافٍ )) تحدَّث علماء كثيرون عن معنى هذا الحديث، وأرى أن أفضل مَن تحدث عن هذا الحديث هو الإمام ابن الجزري -رحمه الله تعالى- حيث إنه اطلع على مَن سبقوه وتحدَّثوا عن هذا الحديث، وذكر خلاصةً لما قالوا. قال -رحمه الله- عن هذا الحديث: وقد تكلم الناس على هذا الحديث بأنواع الكلام، وصنف الإمام الحافظ أبو شامة -رحمه الله تعالى- فيه كتابًا حافلًا، وتكلم بعده قوم وجنح آخرون إلى شيء آخر، والذي ظهر لي أن الكلام عليه ينحصر في عشرة أوجه:
في سبب وروده، في معنى الأحرف، في المقصود به هنا، ما وجه كونها سبعة، على أي شيء يتوجه اختلاف هذه السبعة، على كم معنى تشتمل هذه السبعة، هل هذه السبعة متفرقة في القرآن الكريم؟، هل المصاحف العثمانية مشتملة عليها؟، هل القراءات التي بين أيدي الناس اليوم هي السبعة أم بعضها؟، ما حقيقة هذا الاختلاف وفائدته؟

ملخص الدرس


نتحدث عن الوجه العاشر فقط: قال الإمام ابن الجزري: وأما حقيقة اختلاف هذه السبعة الأحرف المنصوص عليها من النبي -صلى الله عليه وسلم- وفائدته، فإن الاختلاف المُشار إليه في ذلك هو اختلاف تنوّع وتغاير لا اختلافَ تضادّ وتناقض، فإن هذا محالٌ أن يكون في كلام الله تعالى قال تعالى: (( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا )) [النساء: 82] وقد تدبَّرنا اختلاف القراءات كلها فوجدناه لا يخلو من ثلاثة أحوال: اختلاف اللفظ والمعنى واحد، أو اختلافهما جميعًا مع جواز اجتماعهما في شيء واحد، أو اختلافهما جميعًا مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء واحد، بل يتفقان من وجهٍ آخر لا يقتضي التضادّ.
فوائد اختلاف القراءات:
التخفيف على هذه الأمة وإرادة اليُسر بها، والتهوين عليها شرفًا لها، وتوسعة، ورحمة، وخصوصيةً لفضلها، وإجابةً لقصد نبيها، أفضل الخلق، وحبيب الخلق.

ملخص الدرس


ما في ذلك من نهاية البلاغة وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار، وجمال الإيجاز؛ إذ كل قراءة بمنزلة الآية، إذ كان تنوّع اللفظ بكلمةٍ تقوم مقام آيات، ولو جُعلت دلالة كل لفظ آية على حدّتها؛ لم يخفَ ما كان في ذلك من التطويل.
ما في ذلك من عظم البرهان وواضح الدلالة؛ إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوعه لم يتطرق إليه تضاد، ولا تناقض، ولا تخالف؛ بل كله يُصّدق بعضه بعضًا، ويبين بعضه بعضًا، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد وأسلوب واحد، وما ذلك إلا آية بالغة، وبرهان قاطع على صدق مَنْ جاء به -صلى الله عليه وسلم-.
سهولة حفظه وتيسير نقله على هذه الأمة، إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوجازة، فإنه مَن يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه وأقرب إلى فَهمه، وأدعى لقبوله من حفظه جملًا من الكلام تؤدّي معاني تلك القراءات المختلفات؛ لا سيما فيما كان خطه واحدًا، فإن ذلك أسهل حفظًا، وأيسر لفظًا.

ملخص الدرس


إعظام أجور هذه الأمة من حيث إنهم يفرغون جهدهم، ليبلغوا قصدهم في تتبّع معاني ذلك، واستنباط الحِكَم والأحكام من دلالة كل لفظ، واستخراج كمين أسراره، وخفي إشارته وإمعانهم النظر، وإمعانهم الكشف عن التوجيه والتعليل، والترجيح والتفصيل، بقدر ما يبلغ غاية علمهم، ويصل إليه نهاية فهمهم: (( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى )) والأجر على قدر المشقة.
بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم من حيث تلقّيهم كتاب ربهم هذا التلقي، وإقبالهم عليه هذا الإقبال، والبحث عن لفظةٍ لفظةٍ، والكشف عن صيغةٍ صيغةٍ، وبيان صوابه، وبيان تصحيحه، وإتقان تجويده، حتى حَمَوه من خلل التحريف، وحفظوه من الطغيان والتطفيف؛ فلم يهملوا تحريكًا ولا تسكينًا ولا تفخيمًا ولا ترقيقًا؛ حتى ضبطوا مقاديرَ المدات، وتفاوتِ الإمالات، وميزوا بين الحروف بالصفات مما لم يهتدِ إليه فكر أمة من الأمم، ولا يوصل إليه إلا بإلهام بارئ النسم.

ملخص الدرس


ما ادَّخره الله تعالى من المنقبة العظيمة والنعمة الجليلة الجسيمة لهذه الأمة الشريفة، من إسنادها كتابِ ربها، واتصال هذا السبب الإلهي بسببها خصيصة الله تعالى هذه الأمة المحمدية، وإعظامًا لقدر أهل هذه الملة الحنيفية، وكل قارئ يوصل حروفه بالنقل إلى أصله، ويرفع ارتياب المُلحد قطعًا بوصله، فلو لم يكن من الفوائد إلا هذه الفائدة الجليلة؛ لكفت، ولو لم يكن من الخصائص إلا هذه الخصيصة النبيلة لوفت.
ظهور سرّ الله تعالى في توليه حفظ كتابه العزيز، وصيانة كلامه المنزل بأوفى البيان والتمييز؛ فإن الله تعالى لم يُخلِ عصرًا من الأعصار، ولو في قطر من الأقطار من إمام حجة قائم بنقل كتاب الله تعالى، وإتقان حروفه ورواياته، وتصحيح وجوهه وقرآنه، يكون وجوده سببًا لوجود هذا السبب القويم على ممرّ الدهور، وبقاؤه دليلًا على بقاء القرآن العظيم في المصاحف والصدور.

ملخص الدرس


قال الإمام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي: الذي لا شك فيه أن قراءة الأئمة السبعة والعشرة وما وراء ذلك، بعضُ الأحرف السبعة من غير تعيين، وأصح ما عليه الحُذَّاق من أهل النظر في معنى ذلك أن ما نحن عليه في وقتنا هذا من هذه القراءات، هو بعض الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن، وتفسير ذلك أن الحروف السبعة التي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن القرآن نزل عليها يجري على ضربين:
أحدهما: زيادة كلمة ونقص أخرى، وإبدال كلمة مكان أخرى، وتقدم كلمة على أخرى.
والضرب الثاني: ما اختلف القراء فيه بتخفيف وشدّ وإبدال حركة بأخرى، وياء بتاء، وواو بفاء، وما أشبه ذلك من الاختلاف المتقارب. فهذا الضرب هو المستعمل في زماننا هذا، وهو الذي عليه خطّ مصاحف الأمصار سوى ما وقع فيه من الاختلاف في حروف يسيرة. قال: فثبت بهذا أن القراءات التي يُقرأ بها هي بعض الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن الكريم استعملت بموافقتها المصحف الذي أجمعت عليه الأمة، وترك ما سواها من الحروف السبعة؛ لمخالفتها لمرسوم خطّ المصحف؛ إذ ليس بواجب علينا القراءة بجميع الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن الكريم.

ملخص الدرس


ثم قال ابن الجزري -رحمه الله تعالى-: والذي ذهب إليه محمد بن جرير الطبري -رحمه الله- أن كل ما عليه الناس من القراءات مما يُوافق خط المصحف، هو حرف واحد من الأحرف السبعة، فتكون القراءة العَشْر على قوله بعض حرف. قال في كتابه (البيان): واختلاف القراء فيما اختلفوا فيه كالاختلاف. قال: وليس هذا الذي أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (( أنزل القرآن على سبعة أحرف )) . قال: وما اختلف فيه القراء عن هذا بمعزل؛ لأن ما اختلف فيه القراء لا يخرجون فيه عن خطّ المصحف الذي كُتب على حرفٍ واحدٍ.