3.1 أحوال اختلاف القراءات


اختلاف القراءات
هذا الاختلاف تحدَّث عنه كثير من العلماء في شرحهم لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( إن القرآن أُنزل على سبعة أحرُف، كلها شافٍ كافٍ )) وقد تحدَّث علماء كثيرون عن معنى هذا الحديث، وأرى: أن أفضل مَن تحدث عن هذا الحديث هو الإمام ابن الجزري -رحمه الله تعالى- حيث إنه اطلع على مَن سبقوه وتحدَّثوا عن هذا الحديث، وذكر خلاصةً لما قالوا. قال -رحمه الله- عن هذا الحديث: وقد تكلم الناس على هذا الحديث بأنواع الكلام، وصنف الإمام الحافظ أبو شامة -رحمه الله تعالى- فيه كتابًا حافلًا، وتكلم بعده قوم وجنح آخرون إلى شيء آخر، والذي ظهر لي أن الكلام عليه ينحصر في عشرة أوجه:
الأول: في سبب وروده.
الثاني: في معنى الأحرف.
الثالث: في المقصود به هنا.
الرابع: ما وجه كونها سبعة.

3.1 أحوال اختلاف القراءات


الخامس: على أي شيء يتوجه اختلاف هذه السبعة؟
السادس: على كم معنى تشتمل هذه السبعة.
السابع: هل هذه السبعة متفرقة في القرآن الكريم؟
الثامن: هل المصاحف العثمانية مشتملة عليها؟
التاسع: هل القراءات التي بين أيدي الناس اليوم هي السبعة أم بعضها؟
العاشر: ما حقيقة هذا الاختلاف وفائدته؟
نتحدث عن الوجه العاشر فقط، أما بقية الأوجه فسوف تتم دراستها في مادة أخرى -بمشيئة الله تعالى- وهي مادة: المدخل إلى علم القراءات.

3.1 أحوال اختلاف القراءات


قال الإمام ابن الجزري -رحمه الله تعالى-: وأما حقيقة اختلاف هذه السبعة الأحرف المنصوص عليها من النبي -صلى الله عليه وسلم- وفائدته، فإن الاختلاف المُشار إليه في ذلك هو اختلاف تنوّع وتغاير لا اختلافَ تضادّ وتناقض، فإن هذا محالٌ أن يكون في كلام الله تعالى قال تعالى: (( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا )) [النساء: 82] وقد تدبَّرنا اختلاف القراءات كلها فوجدناه لا يخلو من ثلاثة أحوال:
أحدها: اختلاف اللفظ والمعنى واحد.
الثاني: اختلافهما جميعًا مع جواز اجتماعهما في شيء واحد.
الثالث: اختلافهما جميعًا مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء واحد، بل يتفقان من وجهٍ آخر لا يقتضي التضادّ.

3.1 أحوال اختلاف القراءات


فأما الأول: فكالاختلاف في "الصراط" و"عليهم"، و"يؤدي"، و"القدس"، و"يحسب"، ونحو ذلك مما يُطلق عليه أنه لغات فقط، يقصد -رحمه الله تعالى- كالاختلاف في الصراط أي: من حيث قراءتها بالصاد وبالسين وبالإشمام، وعليهم من حيث قراءتها بالكسر أو بالضم بالنسبة لحمزةَ ويعقوب، ويؤدي بالقراءات الواردة فيها مِن قصر ومد وإسكان، والقدس من حيث إسكان الدال وضمها، ويحسب من حيث كسر السين وفتحها.
ثم قال -رحمه الله-: "وأما الثاني فنحو: (( مَالِكِ )) [الفاتحة: 4] و"ملك" في الفاتحة؛ لأن المراد في القراءتين هو الله تعالى؛ لأنه مالك يوم الدين وملكه، وكذا: (( يَكْذِبُونَ )) [البقرة: 10] ويُكذِّبون، أي: في قراءتها بالتخفيف والتشديد؛ لأن المراد بها هم المنافقون؛ لأنهم يُكذبون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ويَكذبون في أخبارهم. وكذا: (( كيف ننشرها )) [البقرة: 259] بالراء والزاي (( وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا )) [البقرة: 259] والقراءة الأخرى: "كيف ننشرها" وننشرها ذاكٍ وبالراء غيرهم؛ لأن المراد بها هي العِظام، وذلك أن الله أنشرها أي: أحياها وأنشزها أي: رفع بعضَها إلى بعض حتى التأمت، فضمن الله تعالى المعنيين.

3.1 أحوال اختلاف القراءات


وأما الثالث فنحو: (( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا )) [يوسف: 110] بالتشديد والتخفيف، فتُقرأ بالتخفيف هكذا: (( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا )) وبالتشديد: "قَدْ كُذِبُوا" وكذا: (( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ )) [إبراهيم: 46] بفتح اللام الأولى ورفع الأخرى، وبكسر الأولى وفتح الثانية؛ فالكسائي يقرؤها هكذا: "وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لَتزُول منه الجبال" وباقي القراء يقرءونها: (( لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ )) . وكذا: (( لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا )) [النحل: 110] و"فتنوا" بالتسمية والتجهيل. وكذا: (( قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ )) [الإسراء: 102] بضم التاء وفتحها.

3.1 أحوال اختلاف القراءات


ثم ذكر -رحمه الله تعالى- بعض الأمثلة للقراءات الشاذة فقال: "وكذا قرئ شاذًّا "وهو: (( يطعم ولا يطعم )) [الأنعام: 14] عكس القراءة المشهورة، وكذلك: "يطعم ولا يطعم" على التسمية فيهما؛ فإن ذلك كله وإن اختلف لفظًا ومعنًى، وامتنع اجتماعه في شيء واحد، فإنه يجتمع من وجهٍ آخر يمتنع فيه التضاد والتناقض. فأما وجه تشديد: "كُذبوا" فالمعنى: وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم، ووجه التخفيف وتوهم المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به؛ فالظن في الأولى يقين والضمائر الثلاثة للرسل، والظن في القراءة الثانية شكّ، والضمائر الثلاثة للمرسل إليهم. وأما وجه فتح اللام الأولى ورفع الثانية من: "لتزول" فهو أن يكون أن مخففة من الثقيلة أي: وإن كان مكرهم كان من الشدة بحيث تُقتلع منه الجبالُ الراسيات من مواضعها، وفي القراءة الثانية إنْ نافية أي: ما كان مكرهم وإن تعاظم وتفاقم ليزول منه أمرُ محمد -صلى الله عليه وسلم- ودينُ الإسلام؛ ففي الأولى تكون الجبال حقيقةً، وفي الثانية مجازًا.

3.1 أحوال اختلاف القراءات


وأما وجه قراءة: (( مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا )) على التجهيل فهو أن الضمير يعود على "الذين هاجروا" وفي التسمية يعود إلى "الخاسرين" وأما وجه ضمّ تاء: (( عَلِمْتَ )) على قراءة الكسائي: "قال لقد علمتُ" فإنه أسند العلمَ إلى موسى -عليه السلام- حديثًا منه لفرعون، حيث قال: (( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ )) [الشعراء: 27] فقال سيدنا موسى -عليه السلام- على نفسه: (( لَقَدْ عَلِمْتُ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ )) [الإسراء: 102] فأخبر موسى -عليه السلام- عن نفسه بالعلم بذلك أي: أن العالِم بذلك ليس بمجنون، وقراءة فتح التاء أنه أسند العلمَ لفرعون مخاطبةً من سيدنا موسى له بذلك على وجه التقريع؛ لشدة معاندته للحق بعد علمه، وكذلك وجه قراءة الجماعة: "يُطعموا" بالتسمية "ولا يُطعَم" على التجهيل، أن الضمير في "وهو" يعود إلى الله تعالى أي: والله تعالى يرزق الخلقَ ولا يرزقه أحد. والضمير في عكس هذه القراءة يعود إلى الولي أي: والولي المتخذ يُرزق ولا يرزق أحدًا، والضمير في القراءة الثالثة وهي القراءة الشاذة: "وهو يطعم ولا يطعم" يعود إلى الله تعالى أي: والله يطعم مَن يشاء ولا يطعم من يشاء.

3.1 أحوال اختلاف القراءات


فليس في شيء من القراءات تنافٍ ولا تضاد، ولا تناقض، وكل ما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك؛ فقد وجب قَبوله، ولم يسعْ أحدًا من الأمة ردّه، ولزم الإيمان به، وأن كله منزَّل من عند الله؛ إذ كل قراءة منها مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمانُ بها كلها، ويجب اتباع ما تضمنته من المعنى علمًا وعملًا، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنًّا أن ذلك تعارض، وإلى ذلك أشار عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- بقوله: "لا تختلفوا في القرآنِ ولا تنازَعوا فيه، فإنه لا يَختلف، ولا يَتساقط، ألا ترون أن شريعة الإسلام فيه واحدة؛ حدودها، وقراءتها، وأمر الله فيها واحد، ولو كان من الحرفين حرفٌ يأمر بشيء ينهى عنه الآخر؛ كان ذلك الاختلاف، ولكنه جامعٌ ذلك كلَّه، ومَن قرأ على قراءة فلا يدعها رغبةً عنها، فإنه مَن كفَرَ بحرف منه؛ كفر به كله".

3.1 أحوال اختلاف القراءات


قال الإمام ابن الجزري -رحمه الله تعالى- بعد ذلك: قلت: وإلى ذلك أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال لأحد المختلفين: (( أحسنتَ )) وفي الحديث الآخر: (( أصبت )) وفي الآخر: (( هكذا أنزلت )) فصوَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- قراءةَ كلٍّ من المختلفين، وقطَعَ بأنها كذلك أنزلت من عند الله.
وبهذا افترق اختلاف القراء من اختلاف الفقهاء، فإن اختلاف القراء كلّ حق وصواب، نزل من عند الله تعالى، وهو كلامه لا شكّ فيه، واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهادي، والحق في نفس الأمر فيه واحد؛ فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حقٌّ وصواب في نفس الأمر نقطع بذلك ونؤمنُ به، ونعتقد أن معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى مَن أضيف إليه من الصحابة وغيرهم إنما هو مِن حيث إنه كان أضبطَ له، وأكثرَ قراءةً، وإقراءً به، وملازمةً له، وميلًا إليه، لا غيرَ ذلك، وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورُواتهم، المراد بها أن ذلك القارئ وذلك الإمام اختار القراءةَ بذلك الوجه من اللغة حسبما قرأ به، فآثره على غيره، وداوم عليه، ولزمه حتى اشتهر وعُرف به، وقُصد فيه، وأخِذَ عنه؛ فلذلك أضيف إليه دون غيره من القُرَّاء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد.