![]() |
منها: التخفيف على هذه الأمة وإرادة اليُسر بها، والتهوين عليها شرفًا لها، وتوسعة، ورحمة، وخصوصيةً لفضلها، وإجابةً لقصد نبيها، أفضل الخلق، وحبيب الخلق؛ حيث أتاه جبريل فقال له: (( إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآنَ على حرف، فقال -صلى الله عليه وسلم-: أسأل الله معافاته ومغفرته، إن أمتي لا تُطيق ذلك، ولم يزل يردّد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف )) وفي الصحيح أيضًا: (( إن ربي أرسل إليَّ أن اقرأ القرآن على حرف، فردّدت إليه أن هوِّن على أمتي، ولم يزل يردّد حتى بلغ سبعة أحرف )) وكما ثبت صحيحًا: (( إن القرآن نزَلَ مِن سبعة أبواب على سبعة أحرف، وإن الكتابَ قبلَه كان ينزل من باب واحد على حرف واحد )) . |
![]() |
وذلك أن الأنبياء -عليهم السلام- كانوا يُبعثون إلى قومهم الخاصين بهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بُعث إلى جميع الخلق أحمرها وأسودها، عربيّها وعجميّها، وكانت العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتُهم مختلفة، وألسنتهم شتى، ويعثر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها، أو من حرف إلى آخر؛ بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك، ولا بالتعليم والعلاج؛ لا سيما الشيخ والمرأة، ومَن لم يقرأ كتابًا كما أشار إليه -صلى الله عليه وسلم- فلو كُلّف العدول عن لغتهم، والانتقال عن ألسنتهم؛ لَكَان من التكليف بما لا يُستطاع، وما عسى أن يتكلف المتكلف، وتأبى الطِّباع. |
![]() |
ثم قال العلامة ابن الجزري -رحمه الله تعالى-: قال الإمام أبو محمد عبد الله بن قتيبة في كتاب (المشكل): فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن يُقرئ كل أمة بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم، فالهُزلي يقرأ: ((عتى حين)) [يوسف: 35] يريد حتى، هكذا يلفظ بها ويستعملها، والأُسدي يقرأ: (( تِعلمون )) [يوسف: 86] و (( تِعلم )) [المائدة: 116] و (( تسود وجوه )) [آل عمران: 106] ويقرأ: (( ألم أعهِدْ إليكم )) [يس: 52] والتميمي يهمز، والقرشي لا يهمز، والآخر يقرأ: (( قيل لهم وغيض الماء )) [هود: 44] بإشمام الضم مع الكسر أي: تُقرأ: "وقيل لهم وغيض الماء" هكذا تُقرأ؛ لأن هذا الإشمام لا يُعلم إلا بالتلقي والمشافهة. |
![]() |
ثم قال ابن الجزري: "قلت: وهذا يقرأ عليهم [يوسف: 71] وفيهم [النحل: 27] يقرأها: (( عليهم )) و (( فيهم )) بالضم، والآخر يقرأ: (( عليهمو )) و (( منهمو )) بالصلة، وهذا يقرأ: (( قد أفلح )) [المؤمنون: 1] (( قل أوحي )) [الجن: 1] و (( خلة ولا )) [البقرة: 254] بالنقل، والآخر يقرأ: (( موسى )) [آل عمران: 84] و (( عيسى )) [آل عمران: 84] و (( دنيا )) [آل عمران: 145] بالإمالة، وغيره يقرأها بالفتح، وهكذا يقرأ: (( خبيرًا )) و (( بصيرًا )) [الإسراء: 17] بالترقيق، والآخر يقرأ: (( الصلاة )) [الإسراء: 78] و (( الطلاق )) [البقرة: 229] بتغليظ اللام إلى غير ذلك. |
![]() |
ثم قال ابن الجزري: قال ابن قتيبة: ولو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده طفلًا وناشئًا وكهلًا لاشتدَّ ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يُمكنه إلا بعض رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعلَ لهم مُتسعًا في اللغات، ومتصرفًا في الحركات كتيسيره عليهم في الدين. |
![]() |
ومن الفوائد أيضا: قال العلامة ابن الجزري -رحمه الله تعالى-: ومنها ما في ذلك من نهاية البلاغة وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار، وجمال الإيجاز؛ إذ كل قراءة بمنزلة الآية، إذ كان تنوّع اللفظ بكلمةٍ تقوم مقام آيات، ولو جُعلت دلالة كل لفظ آية على حدّتها؛ لم يخفَ ما كان في ذلك من التطويل. |
![]() |
ومن الفوائد أيضًا: ما في ذلك من عظم البرهان وواضح الدلالة؛ إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوعه لم يتطرق إليه تضاد، ولا تناقض، ولا تخالف؛ بل كله يُصّدق بعضه بعضًا، ويبين بعضه بعضًا، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد وأسلوب واحد، وما ذلك إلا آية بالغة، وبرهان قاطع على صدق مَنْ جاء به -صلى الله عليه وسلم-. |
![]() |
الفائدة الرابعة: سهولة حفظه وتيسير نقله على هذه الأمة، إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوجازة، فإنه مَن يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه وأقرب إلى فَهمه، وأدعى لقبوله من حفظه جملًا من الكلام تؤدّي معاني تلك القراءات المختلفات؛ لا سيما فيما كان خطه واحدًا، فإن ذلك أسهل حفظًا، وأيسر لفظًا. |
![]() |
الفائدة الخامسة: إعظام أجور هذه الأمة من حيث إنهم يفرغون جهدهم، ليبلغوا قصدهم في تتبّع معاني ذلك، واستنباط الحِكَم والأحكام من دلالة كل لفظ، واستخراج كمين أسراره، وخفي إشارته وإمعانهم النظر، وإمعانهم الكشف عن التوجيه والتعليل، والترجيح والتفصيل، بقدر ما يبلغ غاية علمهم، ويصل إليه نهاية فهمهم: (( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى )) [آل عمران: 195] والأجر على قدر المشقة. |
![]() |
الفائدة السادسة: بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم من حيث تلقّيهم كتاب ربهم هذا التلقي، وإقبالهم عليه هذا الإقبال، والبحث عن لفظةٍ لفظةٍ، والكشف عن صيغةٍ صيغةٍ، وبيان صوابه، وبيان تصحيحه، وإتقان تجويده، حتى حَمَوه من خلل التحريف، وحفظوه من الطغيان والتطفيف؛ فلم يهملوا تحريكًا ولا تسكينًا ولا تفخيمًا ولا ترقيقًا؛ حتى ضبطوا مقاديرَ المدات، وتفاوتِ الإمالات، وميزوا بين الحروف بالصفات مما لم يهتدِ إليه فكر أمة من الأمم، ولا يوصل إليه إلا بإلهام بارئ النسم. |
![]() |
الفائدة السابعة: ما ادَّخره الله تعالى من المنقبة العظيمة والنعمة الجليلة الجسيمة لهذه الأمة الشريفة، من إسنادها كتابِ ربها، واتصال هذا السبب الإلهي بسببها خصيصة الله تعالى هذه الأمة المحمدية، وإعظامًا لقدر أهل هذه الملة الحنيفية، وكل قارئ يوصل حروفه بالنقل إلى أصله، ويرفع ارتياب المُلحد قطعًا بوصله، فلو لم يكن من الفوائد إلا هذه الفائدة الجليلة؛ لكفت، ولو لم يكن من الخصائص إلا هذه الخصيصة النبيلة لوفت. |
![]() |
الفائدة الثامنة: ظهور سرّ الله تعالى في توليه حفظ كتابه العزيز، وصيانة كلامه المنزل بأوفى البيان والتمييز؛ فإن الله تعالى لم يُخلِ عصرًا من الأعصار، ولو في قطر من الأقطار من إمام حجة قائم بنقل كتاب الله تعالى، وإتقان حروفه ورواياته، وتصحيح وجوهه وقرآنه، يكون وجوده سببًا لوجود هذا السبب القويم على ممرّ الدهور، وبقاؤه دليلًا على بقاء القرآن العظيم في المصاحف والصدور |